فصل: المسألة السَّابِعَةُ: (فيما ترتب على ذَمِّ اللَّهُ الْأَعْرَابَ بِنَقْصِهِمْ وَحَطَّهُمْ عَنْ الْمَرْتَبَةِ الْكَامِلَةِ لِسِوَاهُمْ من أحكام):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}:

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ {الَّذِينَ} بِإِسْقَاطِ الْوَاوِ نَعْتًا لِلْأَنْصَارِ، فَرَاجَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَسَأَلَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَصَدَّقَ زَيْدًا فَرَجَعَ إلَيْهِ عُمَرُ، وَثَبَتَتْ الْوَاوُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ».
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّابِعِينَ؛ فَقِيلَ: هُمْ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ كَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمَنْ دَانَاهُمْ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ؛ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ شَكَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالِدٍ: «دَعُوا لِي أَصْحَابِي، فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ». خَرَّجَهُ الْبَرْقَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقِيلَ: هُمْ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلَا عَايَنُوا مُعْجِزَاتِهِ؛ وَلَكِنَّهُمْ سَمِعُوا خَبَرَهُ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي مِنْ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ اسْمٌ مَخْصُوصٌ بِالْقَرْنِ الثَّانِي، فَيُقَالُ صَحَابِيٌّ وَتَابِعِيٌّ بِهَذِهِ الْخُطَّةِ، لِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَفَانَا أَنْ اتَّقَيْنَا اللَّهَ، وَاهْتَدَيْنَا بِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ، وَاقْتَفَيْنَا آثَارَهُ، وَاسْمُ الْأُخُوَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا تِبْيَانًا لَنَا.

.المسألة الْخَامِسَةُ: [في السابق إلى كل خير]:

إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ، وَبُيِّنَتْ الْخُطَطُ فَإِنَّ السَّابِقَ إلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمُتَقَدِّمَ إلَى الطَّاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُصَلِّي فِيهَا وَالتَّالِي بِهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}.
وَلَكِنْ مَنْ سَبَقَ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ مَرْتَبَةً، وَأَوْفَى أَجْرًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّابِقِ مِنْ الْفَضْلِ إلَّا اقْتِدَاءُ التَّالِي بِهِ، وَاهْتِدَاؤُهُ بِهَدْيِهِ، فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ، وَمِثْلُ ثَوَابِ مَنْ اتَّبَعَهُ مُقْتَدِيًا بِهِ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا».
وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا عَنْهُ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا»؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

.المسألة السَّادِسَةُ: [في أَنَّ السَّبْقَ يَكُونُ بِالصِّفَاتِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ]:

قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّبْقَ يَكُونُ بِالصِّفَاتِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَفْضَلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ سَبْقُ الصِّفَاتِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ. فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ».
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ مَنْ سَبَقَنَا مِنْ الْأُمَمِ بِالزَّمَانِ فَجِئْنَا بَعْدَهُمْ سَبَقْنَاهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَالِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالِانْقِيَادِ إلَيْهِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِهِ، وَالرِّضَا بِتَكْلِيفِهِ، وَالِاحْتِمَالِ لِوَظَائِفِهِ، لَا نَعْتَرِضُ عَلَيْهِ، وَلَا نَخْتَارُ مَعَهُ، وَلَا نُبَدِّلُ بِالرَّأْيِ شَرِيعَتَهُ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ.
وَذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ لِمَا قَضَاهُ، وَبِتَيْسِيرِهِ لِمَا يَرْضَاهُ، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ.

.المسألة السَّابِعَةُ: [فيما ترتب على ذَمِّ اللَّهُ الْأَعْرَابَ بِنَقْصِهِمْ وَحَطَّهُمْ عَنْ الْمَرْتَبَةِ الْكَامِلَةِ لِسِوَاهُمْ من أحكام]:

لَمَّا ذَمَّ اللَّهُ الْأَعْرَابَ بِنَقْصِهِمْ وَحَطَّهُمْ عَنْ الْمَرْتَبَةِ الْكَامِلَةِ لِسِوَاهُمْ تَرَتَّبَتْ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، حَسْبَمَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الْحَشْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
ثَانِيهَا: أَنَّ إمَامَتَهُمْ بِأَهْلِ الْحَضَرِ مَمْنُوعَةٌ لِجَهْلِهِمْ بِالسُّنَّةِ وَتَرْكِهِمْ لِلْجُمُعَةِ.
ثَالِثُهَا: إسْقَاطُ شَهَادَةِ الْبَادِيَةِ عَنْ الْحَضَارَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ؛ فَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ، وَمَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ، وَوِلَايَةٌ كَرِيمَةٌ، فَإِنَّهَا قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ، وَتَنْفِيذُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَمَالَ الصِّفَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نُقْصَانَ صِفَتِهِ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ.
وَقِيلَ: إنَّمَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ التُّهْمَةِ إذَا شَهِدَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ بِحُقُوقِ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ، وَتِلْكَ رِيبَةٌ؛ إذْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْحَضَرِيُّونَ، فَعَدَمُ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ وَوُجُودُهَا عِنْدَ الْبَدْوِيِّينَ رِيبَةٌ تَقْتَضِي التُّهْمَةَ، وَتُوجِبُ الرَّدَّ، وَعَنْ هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ كَالْجِرَاحِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَكُونُ فِي الْحَضَرِ مَاضِيَةٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْحَضَرِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَاعِي كُلَّ تُهْمَةٍ؛ أَلَا تَرَاهُ يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ مَنْ أَرَادَ اسْتِيفَاءَهُ. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} وهم الذين صلوا إلى القبيلتين، {مِنَ المهاجرين والانصار}، وشهدوا بدرًا.
عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب من المهاجرون الأولون؟ قال: من صلَّى إلى القبلتين مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من المهاجرين الأولين وقال السدي: كانت الهجرة قبل أن تفتح مكة، فلما فتحت مكة كان من أسلم بعده ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو تابع.
وروي عن مجاشع بن مسعود النهدي أنه جاء بابن أخيه ليبايعه على الهجرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بَلْ بَايِعْ عَلَىَ الإِسْلامِ، فَإِنَّهُ لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفْتَحِ وَيَكُونُ مِنَ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ».
قرأ العامة {والأنصار} بالكسر، وقرأ الحضرمي {والانصار} بالضم.
فمن قرأ بالضم فهو عطف على السابقين التابعين ومعناه والسابقون والأنصار، ومن قرأ بالكسر فهو عطف على المهاجرين ومعناه ومن المهاجرين ومن الأنصار.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقرأ: {الذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} بغير واو، وقراءة العامة بالواو، فمن قرأ بغير واو يكون نعتًا للأنصار، ومن قرأ بالواو يكون نعتًا لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة.
وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: سمع عمر رضي الله عنه رجلًا يقرأ هذه الآية: {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} فقال له عمر: من أقرأك هذه الآية؟ فقال: أقرأنيها أُبيّ بن كعب.
فقال لا تفارقني حتى أذهب بك إليه.
فلما جاءه قال: يا أُبَيّ، أنت أقرأته هذه الآية هكذا؟ قال: نعم.
قال: أنت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قال: كنت أظن أنا قد ارتفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا.
قال أُبيّ: تصديق هذه الآية أول سورة الجمعة، وأوسط سورة الحشر وآخر سورة الأنفال.
أما أول سورة الجمعة {وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم} [الجمعة: 3] وأوسط سورة الحشر {والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10] وآخر سورة الأنفال {والذين ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله إِنَّ الله بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ} [الأنفال: 75].
وقال الشعبي: السابقون الأولون من أدرك بيعة الرضوان وبايع تحت الشجرة.
{والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ}، يعني: على دينهم بإحسانهم، {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} بأعمالهم، {وَرَضُواْ عَنْهُ}، يعني: عن الله تعالى بثوابه لهم في الجنة.
{وَأَعَدَّ لَهُمْ جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار}.
قرأ ابن كثير {مِن تَحْتِهَا الأنهار} بزيادة من، وقرأ الباقون {جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} بغير من صار {تَحْتِهَا} نصبًا لنزع الخافض.
{خالدين فِيهَا أَبَدًا ذلك الفوز العظيم}، يعني: الثواب الوافر. اهـ.

.قال الثعلبي:

{والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين} الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم {والأنصار} الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وأيّدوا أصحابه وقد كانوا آمنوا قبل أن يهاجروا إليهم بحولين {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} يعني الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة.
وقال عطاء: هم الذين يذكرون المهاجرين بالوفاء والترحّم والدعاء ويذكرون مجاورتهم ويسألون الله أن يجمع بينهم.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان برفع الواو وحذف الواو من الذين، قال له أُبيّ بن كعب: إنما هو والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وإنه قد كرّرها مرارًا ثلاثة، فقال له: إني والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان، وإنك يومئذ شيخ تسكن ببقيع الغرقد، قال: حفظتم ونسينا وتفرغتم وشغلنا وشهدتم وغبنا ثم قال عمر لأُبيّ: أفيهم الأنصار؟ قال: نعم ولم يستأ من الخطاب ومن ثمّ قال عمر: قد كنت أظن إنّا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا فقال أبي: بلى، تصديق ذلك أول سورة الجمعة وأواسط سورة الحشر وآخر سورة الأنفال. قوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} [الجمعة: 3] إلى آخره وقوله تعالى: {والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] إلى آخر الآية، وقوله: {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ} [الأنفال: 75]، وقرأ الحسن وسلام ويعقوب: {والأنصار} رفعًا عطفًا على السابقين ولم يجعلوهم منهم وجعلوا السبق للمهاجرين خاصة والمقاسة على الخبر نسقًا على المهاجرين.
واختلف العلماء في السابقين الأولين من هم. فقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين: هم الذين صلّوا القبلتين جميعًا.
وقال عطاء بن أبي رباح: هم الذين شهدوا بدرًا.
وقال الشعبي: هم الذين شهدوا حجة الرضوان.
واختلفوا أيضًا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة بنت خويلد مع اتفاقهم أنها أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدّقته. فقال بعضهم: أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلّى معه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو قول ابن عباس وجابر وزيد بن أرقم ومحمد بن المنكدر وربيعة الرأي وأبي حازم المدني.
وقال الكلبي: أسلم علي وهو ابن تسع سنين، وقال مجاهد وابن إسحاق: أسلم وهو ابن عشر سنين.
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: كان نعمة الله على علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وما صنع الله له وأراد به من الخير أن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله للعباس وكانا من أيسر بني هاشم: «يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ من بنيه رجلا فنكفيهما عنه».
فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا: إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب: إن تركتما لي عقيلًا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا كرم الله وجهه فضمّه إليه وأخذ العباس جعفرًا يضمّه إليه فلم يزل علي رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيًّا فاتبعه علي رضي الله عنه.
فآمن به وصدقه ولم يزل جعفر مع العباس حتى أسلم واستغنى عنه.
وروى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف قال: كنت أمرءًا تاجرًا فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقًا وكان يختلف إلى اليمن يشتري القطن فيبيعه أيام الموسم، فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها، حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة فخرّ الشاب ساجدًا فسجدا معه فرفع فرفع الغلام والمرأة فقلت: يا عباس أمرٌ عظيم فقال: أمرٌ عظيم.
فقلت: ويحك ما هذا؟ فقال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله تعالى بعثه رسولا وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمد قد تابعاه على دينه، ما على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء.
قال عبد الله الكندي بعدما رسخ الإسلام في قلبه: ليتني كنت رابعًا. فيروي أن أبا طالب قال لعلي رضي الله عنه: أي بني ما هذا الذي أنت عليه قال: آمنت بالله ورسوله وصدقته فيما جاء وصليت معه لله. فقال له: أما أن محمدًا لا يدعو إلاّ إلى خير فالزمه.